دراسات
لبّيك ياقـــدس ( الجزء الثالث)
بسم الله الرحمن الرحيم |
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين |
الفصل الثاني
هلموا جميعا إلى فلسطين المباركة مهد الأسرار الربانية والأنوار النبوية والكنوز الروحية والحياة الطيبة
أ- مواقع مقدسات الأرض المباركة من خلال رحلة ابن بطوطة إليها
يقول الإمام الرحالة الشهير والفقيه العالم والثقة النبيه والناسك الأبر أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي ثم الطنجي المعروف بابن بطوطة رحمه الله ورضي عنه وكرمه آمين، في الفصل الثاني من كتابه المسمى "بتحفة النظار في غرائب الأمصار"[1] المتعلق برحلته إلى الشام.
1- من غزة إلى القدس فعسقلان
"ثم سرنا حتى وصلنا إلى مدينة غزة وهي أول بلاد الشام مما يلي مصر متسقة الأقطار كثيرة العمارة حسنة الأسواق، بها المساجد العديدة والأسوار عليها وكان بها جامع حسن، والمسجد الذي تقام الآن به الجمعة فيها، بناه الأمير المعظم الجاولي…وقاضي غزة بدر الدين السلختي الحوراني ومدرسها علم الدين بن سالم، وبنو سالم كبراء هذه المدينة، ومنهم شمس الدين قاضي القدس.."
"ثم سافرت من غزة إلى مدينة الخليل صلى الله على نبينا وعليه وسلم تسليما. وهي مدينة صغيرة الساحة كبيرة المقدار، مشرقة الأنوار، حسنة المنظر عجيبة المخبر في بطن واد. ومسجدها أنيق الصنعة، محكم العمل بديع الحسن سامي الارتفاع، مبني بالصخر المنحوت في أحد أركانه صخرة، أحد أقطارها سبعة وثلاثون شبرا. ويقال أن سليمان عليه السلام أمر الجن ببنائه. وفي داخل المسجد الغار المكرم المقدس فيه قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله على نبينا وعليهم. ويقابلها قبور ثلاثة هي قبور أزواجهم…"
"ومما ذكره أهل العلم دليلا على صحة القبور الثلاثة الشريفة هناك ما نقله من كتاب علي بن جعفر الرازي الذي سمّاه "المسفر للقلوب عن صحة قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب: "أسند فيـه إلى أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لما أسري بي إلى بيت المقدس مرّ بي جبريل على قبر إبراهيم فقال أنزل فصل ركعتين فإن هنا قبر إبراهيم ثم مرّ بي على بيت لحم وقال أنزل فصل ركعتين فإن هنا ولد أخوك عيسى عليه السلام. ثم أتي بي الصخرة. "وذكر بقية الحديث".
"لما لقيت بهذه المدينة المدرس الصالح المعمر الإمام الخطيب برهان الدين الجعبرى أحد الصلحاء المرضيين والأئمة المشهورين، سألته عن صحة كون قبر الخليل عليه السلام هنالك فقال لي: كل من لقيته من أهل العلم يصححون أن هذه القبور قبور إبراهيم وإسحاق ويعقوب على نبينا وعليهم السلام، وقبور زوجاتهم، ولا يطعن في ذلك إلا أهل البدع وهو نقل الخلف عن السلف لا يشك فيه"…وبداخل هذا المسجد أيضا قبر يوسف عليه السلام.
"وبشرقي حرم الخليل تربة لوط عليه السلام. وهي تلّ مرتفع يشرف منه على غور الشام. وعلى قبره أبنية حسنة. وهو في بيت منها حسن البناء مبيض ولا ستور عليه. وهنالك بحيرة لوط[2] وهي أجاج. يقال أنها موضع ديار قوم لوط".
"وبمقربة من تربة لوط مسجد اليقين. وهو على تلّ مرتفع، له نور وإشراق ليس لسواه. ولا يجاوره إلا دار واحدة يسكنها قيّمه. وفي المسجد بمقربة من بابه موضع منخفض في حجر صلد، قد هيئ فيه صورة محراب لا يسع إلا مصليا واحدا. ويقال إن إبراهيم سجد في ذلك الموضع شكرا لله تعالى على هلاك قوم لوط، فتحرك موضع سجوده وساخ في الأرض قليلا.
وبالقرب من هذا المسجد مغارة فيها قبر فاطمة[3] بنت الحسين بن علي عليهما السلام"."وبأعلى القبر وأسفله لوحان من الرخام في أحدهما مكتوب منقوش بخط بديع (بسم الله الرحمان الرحيم له العزة والبقاء وله ماذرأ وبرأ وعلى خلقه كتب الفناء وفي رسول الله أسوة حسنة. هذا قبر أم سلمة فاطمة بنت الحسين رضي الله عنه). وفي اللوح الآخر منقوش: (صنعه محمد بن أبي سهل النقاش بمصر.) وتحت ذلك هذه الأبيات:
"أسكنت من كان في الأحشاء مسكنه "يا قـبـــــــــــر فـاطـمـــة بـنـت ابـن فـاطــمـــــة "يا قـبـــر مـا فـيـك مــن ديـــن ومـــن ورع |
* بالرغم مني بين الترب والحجــر" * بنت الأئـمـة بنـت الأنجــم الزهـر" * ومن عفاف ومن صون ومن خفر" |
ويمضي الإمام الرحالة ابن بطوطة في رحلته ويقول:
"ثم سافرت من هذه المدينة إلى القدس. فزرت في طريقي إليه تربة يونس عليه السلام وعليها أبنية كبيرة ومسجد"."وزرت أيضا بيت لحم موضع ميلاد عيسى عليه السلام وبه أثر جذع النخلة وعليه عمارة كثيرة. والنصارى يعظمونه أشدّ التعظيم ويضيّفون من نزل به".
"ثم وصلنا إلى بيت المقدس شرّفه الله، ثالث المسجدين الشريفين في رتبة الفضل ومصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما ومعرجه إلى السماء [4]، والبلدة كبيرة، منيفة بالصخر المنحوت. وكان الملك الصالح الفاضل صلاح الدين بن أيوب جزاه الله عن الإسلام خيرا لما فتح هذه المدينة هدم بعض سورها. ثم استنقض الملك الظاهر هدمه خوفا أن يقصدها الروم فيتمنعوا بها. ولم يكن بهذه المدينة نهر فيما تقدم، وجلب لها الماء في هذا العهد الأمير سيف الدين تنكز أمير دمشق".
"والمسجد الأقصى" هو من المساجد العجيبة الرائقة الفائقة الحسن. يقال إنه ليس على وجه الأرض مسجد أكبر منه. وأن طوله من شرق إلى غرب سبعمائة واثنتان وخمسون ذراعا بالذراع المالكية وعرضه من القبلة إلى الجوف أربعمائة ذراع وخمس وثلاثون ذراعا. وله أبواب كثيرة في جهات الثلاث. وأما الجهة القبلية منه فلا أعلم بها إلا بابا واحدا وهو الذي يدخل منه الإمام. والمسجد كله فضاء وغير مسقف إلا الأقصى فهو مسقف، في النهاية من إحكام الفعل وإتقان الصنعة، مموه بالذهب والأصبغة الرائقة وفي المسجد مواضع سواه مسقفة. (وقبة الصخرة) هي من أعجب المباني وأتقنها وأغربها شكلا. قد توفر حظها من المحاسن وأخذت من كل بديعة بطرف وهي قائمة على نشز[5] في وسط المسجد يصعد إليها في درج رخام. ولها أربعة أبواب. والدائر بها مفروش بالرخام أيضا. محكم الصنعة، وكذلك داخلها. وفي ظاهرها وباطنها من أنواع الزواقة ورائق الصنعة ما يعجز الوصف.وأكثر ذلك مغشى بالذهب. فهي تتلألأ نورا وتلمع لمعان البرق، يحار بصر متأملها في محاسنها ويقصر لسان رائيها عن تمثيلها.
وفي الوسط القبة الصخرية الكريمة التي جاء ذكرها في الآثار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عرج منها إلى السماء وهي صخرة صماء، ارتفاعها نحو قامة وتحتها مغارة مقدار بيت صغير. ارتفاعها نحو قامة أيضا ينزل إليها على درج، وهنالك شكل محراب. وعلى الصخرة شباكان اثنان، محكما العمل يغلقان عليها، أحدهما وهو الذي يلي الصخرة، من حديد، بديع الصنعة والثاني من خشب وفي القبة درقة [6] كبيرة من حديد معلقة هنالك، والناس يزعمون أنها درقة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. (أما المشاهد المباركة بالقدس الشريف) فمنهم بعدوة الوادي المعروف بوادي جهنم في شرقي البلد على تل مرتفع. وهنالك بنية يقال أنها مصعد عيسى عليه السلام إلى السماء. ومنها أيضا قبر رابعة البدوية. منسوبة إلى البادية، وهي خلاف رابعة العدوية الشهيرة[7].
وفي بطن الوادي المذكور كنيسة يعظمها النصارى، ويقولون أن قبر مريم عليها السلام بها وهنالك أيضا كنيسة أخرى معظمة يحجها النصارى وهي التي يكذبون عليها ويعتقدون أن قبر عيسى عليه السلام بها، وعلى كل من يحجها ضريبة معلومة للمسلمين، وضروب من الإهانة يتحملها على رغم أنفه. وهنالك موضع مهد عيسى عليه السلام يتبرك به…"
وفي رحلته إلى عسقلان يقول الإمام ابن بطوطة رحمه الله: "ثم سافرت من القدس الشريف برسم زيارة ثغر عسقلان[8]، وهو خراب قد عاد رسوما طامسة وأطلال دامسة. وقل بل من المحاسن ما جمعته عسقلان، إتقانا وحسن وضع وأصالة مكان، وجمعا بين مرافق البر والبحر. وبها المشهد حيث كان رأس الحسين بن علي عليه السلام قبل أن ينقل إلى القاهرة. وهو مسجد عظيم سامي العلو فيه جب للماء، أمر ببنائه بعض العبيد، وكتب ذلك على بابه. وفي قبلة هذا المزار مسجد كبير يعرف بمسجد عمر، لم يبق منه إلا حيطانه. وفيه أساطين رخام لا مثيل لها في الحسن، وهي ما بين قائم وحصيد.
ومن جملتها أسطوانة حمراء عجيبة، يزعم الناس أن النصارى احتملوها إلى بلادهم ثم فقدوها فوجدت في موضعها بعسقلان. وفي القبلة من هذا المسجد بئر تعرف ببئر إبراهيم عليه السلام، ينزل إليها في درج متسعة ويدخل منها إلى البيوت، وفي كل ناحية من جهاتها الأربع تخرج من أسراب مطوية بالحجارة، وماؤها عذب وليس بالغزير، ويذكر الناس من فضائلها كثيرة. وبظاهر عسقلان وادي النمل[9]، ويقال إنه المذكور في الكتاب العزيز. وبجبانة عسقلان من قبور الشهداء والأولياء ما لا يحصر لكثرته…."
___________________________
- [1] كتاب قدّم له الإمام محمد بن محمد بن أحمد ابن جوزى الأندلسي، وشرحه وكتب هوامشه الأستاذ طلال حرب.
- [2] البحر الميت.
- [3] هي تابعية من رواة الحديث روت عن جدتها فاطمة مرسلا وعن أبيها وغيرهما. تزوجها الحسن بن الحسن بن علي ثم عبد الله بن عمرو بن عثمان.
- [4] أنظر قصة الإسراء والمعراج في البخاري ومسلم. وقعت هذه المعجزة الباهرة ليلة السابع والعشرين من شهر رجب الحرام بثمانية عشر شهرا قبل الهجرة النبوية على الراجح.
- [5] مرتفع
- [6] ترس
- [7] هي رابعة بنت إسماعيل العدوية أم الخير مولاة آل عتيك البصرية صالحة مشهورة من أهل البصرة لها أخبار في العبادة والنسك ولها شِعر. توفيت بالقدس سنة 135 هـ .
- [8] مدينة بالشام من أعمال فلسطين على ساحل البحر بين غزة وبيت جبرين وفيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"أبشركم بالعروسين غزة وعسقلان" (أنظر معجم البلدان لياقوت الحموى).
- [9] هو الوادي الذي خاطب سليمان عليه السلام النمل فيه.
-