أحداث وإصدارات

في رحاب مدرسة رمضان العلاجية (الجزء السادس والأخير)


                                               بسم الله الرحمن الرحيم 

                      اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين

 4/ من جوائز الصيام الانتصار على الهوى

     عرّف العلماء الكرام الهوى بأنه ميل النفس إلى الشهوة ، ويقال ذلك للنفس المائلة إلى الشهوة ، سمى بذلك لأنه  يهوى بصاحبه في الدنيا إلى كل داهية وفي الآخرة إلى الهاوية .. ومقاومة الهوى مغالبته ومحاربته والخلوص من وساوس النفس وإغواء الشيطان اللعين  فهي خُلق من أخلاق القرآن الكريم وفضيلة من فضائل الإسلام العظيم وجانب من هدي الرسول عليه الصلاة وأزكى التسليم ..

     وقد عظم الله تعالى ذم اتباع الهوى في مواطن عديدة من كتابه العزيز ونوه بشأن من يفلح في مقاومة هواه ، قال جل ذكره في سورة النازعات : " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى"(40-41). فالذي يخاف مقام ربه عز وجل لا يقدم على معصية ، فإذا أقدم عليها بحكم ضعفه البشري قاده خوف هذا المقام الجليل إلى الندم والاستغفار والتوبة، فظل في دائرة الطاعة .ونهي النفس عن الهوى هو نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة ، فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان وكل تجاوز وكل معصية وهو أساس البلوى وينبوع الشر وقل أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى . فالجهل سهل علاجه ولكن الهوى بعد العلم آفة النفس التي تحتاج إلى جهاد شاق طويل الأمد لعلاجها .

     والخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة ، والذي يتحدث هنا هو خالق هذه النفس العليم بدائها ، الخبير بدوائها وهو وحده الذي يعلم دروبها ومنحنياتها ويعلم أين تكمن أهواؤها وأدواؤها وكيف تطارد في مكامنها ومخابئها ولم يكلف الله سبحانه ألا يشتجر في نفسه الهوى  فهو تعالى يعلم أن هذا خارج عن طاقته ولكنه كلفـه أن ينهاها ويكبحها ويمسك بزمامها وأن يستعين في هذا بالخوف ، الخوف من مقام ربه الجليل العظيم المهيب ، وكتب له بهذا الجهاد الشاق الجنة مثابة ومأوى " فإن الجنة هي المأوى " ذلك أن الله يعلم ضخامة هذا الجهاد وقيمته كذلك في تهذيب النفس البشرية وتقويمها ورفعها إلى المقام الأسنى .

     إن الإنسان لهو إنسان بهذا النهي وبهذا الجهاد وبهذا الارتفاع وليس بترك نفسه لهواها وإطاعة جواذبه إلى دركها بحجة أن هذا مركب في طبيعته فالذي أودع نفسه الاستعداد لجيشان الهوى هو الذي أودعها الاستعداد للإمساك بزمامه ونهي النفس عنه ورفعها عن جاذبيته وجعل له الجنة جزاء ومأوى حين ينتصر ويرتفع ويرقى .

     وهنالك حرية إنسانية تليق بتكريم الله للإنسان تلك هي حرية الانتصار على هوى النفس والانطلاق من اسر الشهوة والتصرف بها في توازن تثبت معه حرية الاختيار والتقدير الإنساني، وهناك حرية حيوانية هي هزيمة الإنسان أمام هواه وعبوديته لشهوته وانفلات الزمام من إرادته، وهي حرية لا يهتف بها إلا مخلوق مهزوم الإنسانية مستعبد يلبس عبوديته رداء زائفا من الحرية.

     ويقول القرآن الكريم في سورة الكهف: "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطلع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"(28-29). يروى أن هذه الآية نزلت في إشراف قريش حين طلبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطرد فقراء المؤمنين من أمثال بلال وصهيب وعمار وخباب وابن مسعود إذا كان يطمع في إيمان  رؤوس قريش ، أو أن يجعل لهم مجلسا غير مجلس هؤلاء النفر ، لأن عليهم جبابا تفوح منها رائحة العرق ، فتؤذي السادة من كبراء قريش  ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم طمع في إيمانهم فحدثته نفسه فيما طلبوا إليه فأنزل الله عز وجل هذه الآية الكريمة ، أنزلها تعلن عن القيم الحقيقية وتقيم الميزان الذي لا يخطـئ وبعد ذلك " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ". فالإسلام لا يتملق أحد ولا يزن الناس بموازن الجاهلية الأولى ولا أية جاهلية تقيم للناس ميزانا غير ميزانه .. " أصبر نفسك " مع هؤلاء صاحبهم وجالسهم وعلمهم ففيهم كل الخير وعلى مثلهم تقوم الدعوات لآن الله هو غايتهم يتجهون إليه بالغداة والعشي لا يتحولون عنه ولا يبتغون إلا رضاه فالدعوات لا تقوم على من يعتنقونها لأنها غالبة ، ومن يعتنقونها ليقودوا بها الأتباع ومن يعتنقونها ليحققوا بها الأطماع وليتجرؤوا بها في سوق الدعوات تشترى منهم وتباع ، إنما تقوم الدعوات بهذه القلوب التي تتجه إلى الله خالصة له ، لا تبغي جاها ولا متاعا ولا انتفاعا ، إنما تبتغى وجهه وترجو رضاه . ولا تطع هؤلاء الكفرة فيما يطلبون من تمييز بينهم وبين الفقراء الذين يتبعون أهواءهم أهواء الجاهلية ويحكمون مقاييسها في العباد فهم وأقوالهم سفه ضائع لا يستحق إلا الإغفال جزاء ما غفلوا عن ذكر الله.

     إن العقيدة ليست ملكا لأحد حتى يُجامل فيها ، إنما هي ملك لله ، والله غني عن العالمين والعقيدة لا تعتز ولا تنتصر بمن لا يريدونها لذاتها خالصة ولا يأخذونها كما هي بلا تحوير والذي يرتفع عن المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، لا يرجى منه خير للإسلام ولا المسلمين ...

     وكما اتخذ الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الآيات السالفة موضعها للنهي عن الهوى نجد أن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام قد حذر هو أيضا من إتباع الهوى فقال في حديثه الصحيح: " ثلاث مهلكات: شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه ". ويروى أن سيدنا عليا كرم الله وجهه ابتدأ إحدى خطبه بقوله: " إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان : إتباع الهوى وطول الأمل ، فأما إتباع الهوى فيصد عن الحق وأما طول الأمل فينسى الآخرة " ويقول أبو بكر الوراق رحمه الله : أصل غلبة الهوى مفارقة الشهوات فإذا غلب الهوى أظلم القلب وإذا اظلم القلب ضاق الصدر وإذا ضاق الصدر ساء الخُلق وإذا ساء الخُلق أبغضه الخلق وإذا أبغضه الخلق أبغضهم وإذا أبغضهم جفاهم وإذا جفاهم صار شيطانا (طوبى لمن ضيق على اللعين بالصيام وتوَّج صيامه بالقيام وتشبه بعباد الله الكرام).




facebook twitter youtube LinkedIn cheikh badaoui el djazairi mail
.
.

٠١ / مايو / ٢٠٢٤
ALG
GMT + 1

arrow_drop_up